بين الزاجر والجابر: تعويض دوري بمثابة نفقة لمولود نتاج فعل جرمي- قراءة في قرار محكمة النقض (15 أبريل 2025)

الأستاذ عمر العياشي، مفوض قضائي بتطوان
عمر العياشي: مفوض قضائي في مدينة تطوان، المغرب

إن القضاء المغربي يعرف بين الفينة والأخرى نبوغ طفرة قضائية تزاحم المألوف وتعيد ترتيب الموازين بين حرفية النص وروح العدالة، طفرات لا تكتفي بتصحيح أعطال التكييف، بل تفتح مسالك تطبيقية تلائم بين ثوابت الأسرة ومقتضيات الدستور والتزامات المملكة الدولية، وتعلي من مبدأ المصلحة الفضلى للطفل ومن قواعد المسؤولية المدنية التي تجبر الضرر ولا تشرعن الخطأ، وفي هذا الأفق تتنزل الأحكام التي تُحول التعارضات الظاهرة إلى توازنات مؤسسية، وتلزم قاضي الموضوع بتحرير الطلب على حقيقته القانونية لا على عنوانه الشكلي.

يكرس قرار محكمة النقض الصادر بتاريخ 15 أبريل 2025 في الملف المدني عدد 227/1/1/2025 منعطفا فقهيا وقضائيا مهما في تعاطي القضاء المغربي مع التعويضات المستحقة للأطفال المولودين نتيجة أفعال جرمية وقعت دون رضى من الموطوءة الخالية من الزوج.

فالقضية التي انطلقت من دعوى مدنية أقامتها أم قاصر لطفل ازداد بتاريخ 24 غشت 2022، إثر اعتداء جنسي استُغل فيه ضعف قواها العقلية، انتهت في درجتيها الابتدائية والاستئنافية بمدينة الحسيمة، إلى رفض طلب “تعويض شهري بمثابة نفقة”، بدعوى أن المادة 148 من مدونة الأسرة تنفي كل أثر من آثار البنوة الشرعية للأب في غير الزواج. لكن محكمة النقض نقضت قرار الاستئناف لقصور تعليله وأحالته على محكمة الاستئناف بفاس، مؤكدة أن إنزال العقوبة الجنائية لا يُسقط الحق المدني في جبر الضرر، وأن المطلوب هو تكييف صحيح لطلبات المدعية على أساس المسؤولية التقصيرية، لا على أساس إثبات نسب أو ترتيب آثار بنوة شرعية.

يتضح من معطيات الملف أن الدعوى لم تكن تروم إثبات نسب أو انتزاع آثار بنوة شرعية، بل كانت تطلب تعويضا دوريا يصرف للطفل على غرار النفقة، باعتباره ضررا ماديا متجددا نشأ عن فعل جرمي مس جسد الأم وكرامتها وأفضى إلى مولود محتاج لا ذنب له في ما وقع. وهنا يبرز جوهر القيمة المعيارية للقرار: إعادة ضبط التوازن بين حدين يحكمان المنظومة؛ حد البنوة الشرعية كما قررته المادة 148 من مدونة الأسرة، وحدّ حماية الطفل ومصلحته الفضلى كما نصّ عليها الفصل 32 من الدستور والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل المصادق عليها. فإذا كان النص الأسري ينفي آثار البنوة الشرعية للأب خارج الزواج، فإن قواعد المسؤولية التقصيرية في قانون الالتزامات والعقود، مرفودة بمقتضيات الدستور والاتفاقية، لا تجيز حرمان الطفل من جبر ضرر مادي محقق في رزقه وكسوته وعلاجه وتعليمه، لمجرد أن ولادته وقعت في سياق غير مشروع ودون رضى.

ولذلك شددت محكمة النقض على أن وظيفة قاضي الموضوع لا تقف عند حدود التسميات التي يختارها الخصوم لطلباتهم، بل تمتد إلى تكييفها تكييفا مطابقا لحقيقتها القانونية. فحين يكون الطلب في جوهره تعويضا تقصيريا دوريا “بمثابة نفقة”، فإن رده بعلة تعارضه مع المادة 148 يعد انصرافا عن محل النزاع؛ إذ إن المادة تنظم آثار البنوة الشرعية، بينما التعويض الدوري هنا لا يقوم على رابطة نسب، بل على ثبوت خطإ جرمي أفضى إلى ضرر متولد عنه مولود محتاج. بهذا، ينتفي التعارض الذي افترضته محكمة الاستئناف بين مدونة الأسرة وقواعد إصلاح الضرر، فلا يلزم من نفي النسب الشرعي نفي المسؤولية المدنية.

وعلى مستوى البناء القيمي، يُظهر القرار توترا منهجيا بين نزعتين: نزعة محافظة تتمسك بحرفية حدود البنوة الشرعية كما استقرت تاريخيا، ودعوة تحديثية تستند إلى روح الدستور ومبدأ سمو حماية الطفل وقواعد المسؤولية المدنية الحديثة. غير أن المحكمة لا تجري قطيعة مع التراث، بل تتوسل قراءة مقاصدية في الفقه المالكي نفسه- من خلال مبدأ الجمع بين “الزاجر” و”الجابر”—لتجاوز الجمود.

فهي تبقي على نفي النسب الشرعي خارج الزواج، محافظة بذلك على نسق الأسرة كما رتبته المدونة، لكنها في الان نفسه تفتح مسار التعويض الدوري “بمثابة نفقة” حماية للمولود ومنعا لعقوبة اجتماعية تنزل به بسبب فعل غيره. هكذا يتحول التعارض الظاهري بين معيارية النسب ومعيارية الحق في الرعاية إلى توازن مؤسسي يقدم مصلحة الطفل من غير أن يطيح بالبناء الفقهي للأسرة.

ولم تكتف محكمة النقض بإرساء هذه المعالم، بل لفتت نظر محكمة الموضوع إلى واجبها في سلوك إجراءات التحقيق المناسبة لتحرير رابطة السببية بين الفعل الجرمي وولادة الطفل، إذ إن واقعة هتك العرض لضعف القوى العقلية قرينة على احتمال وقوع الوطء الكامل، ما يستدعي اللجوء إلى الخبرة البيولوجية وسماع الشهود واستجلاء معطيات الملف الجنحي قبل الفصل في مقدار التعويض الدوري ومدته. بهذا المعنى، يصبح إثبات السببية شرطا لازما لاحكام الإلزام المدني ومنحه مشروعيته الواقعية والقانونية معا.

أما على الصعيد العملي، فيقدم القرار خارطة طريق للفاعلين القضائيين والمحامين: المطلوب تأطير هذه المطالب بوضوح باعتبارها تعويضا مدنيا دوريا يُصرف بالمعروف لتغطية حاجات الطفل الأساسية من غذاء وكسوة وعلاج وسكن وتعليم ابتداء من تاريخ الولادة متى ثبتت السببية، مع قابليته للمراجعة زيادة أو نقصانا تبعا لتغير احتياجات الطفل ويسار الملزم. كما يحمل محاكم الموضوع مسؤولية مضاعفة في التدقيق والتحقيق بدل الاحتماء بتعليلات عامة تُحيل على المادة 148 دون محاكمة حقيقية لمقتضيات الدستور والاتفاقية الدولية والقواعد المدنية.

وفي الخلاصة، نجح قرار محكمة النقض المؤرخ في 15 أبريل 2025 في رفع التعارض الظاهري بين مدونة الأسرة وقواعد حماية الطفل، إذ قرر أن نفي آثار البنوة الشرعية في غير الزواج لا يعني نفي حق المولود- متى ثبتت سببية الفعل الجرمي—في تعويض دوري يشبه النفقة في غايته وإن اختلف عنها في أساسه القانوني، وهو بهذا يعيد الاعتبار لمبدأ العدالة الجابرة، ويرسخ مكانة المصلحة الفضلى للطفل في هندسة القضاء المدني، ويؤكد أن حماية الطفولة التزام دستوري ملزِم يتجسد في أحكام قابلة للتنفيذ، لا شعارا أخلاقيا معلقا في الفراغ.

اترك تعليقاً