يونس شهيم
طالب باحث ماستر الأداء السياسي والمؤسساتي
إشراف: الدكتور طه الحميداني
ملخص تنفيذي:
خطا المغرب خطوات هامة في المسألة المتعلقة بحقوق الإنسان منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، تمثلت هذه الخطوات بالأساس في عزم البلد على الطي النهائي لملف الانتهاكات التي عرفها المغرب إبان حكم الملك الراحل الحسن الثاني، لأجل ذلك عمل النظام على إحداث مجموعة من الآليات وتبني تدابير مختلفة توخت في مجملها تحقيق العدالة الانتقالية والقطع مع الماضي، مستفيدة من تجارب دولية مختلفة مع الحرص على صياغة نموذج مغربي خاص يراعي الخصوصية والسياق المغربيين.
معلوم أن أهم أهداف “العدالة الانتقالية” يتمثل في تلك الضمانات التي توفرها هذه الآلية بغرض عدم تكرار الانتهاكات والخروقات في المستقبل، وإلا ستذهب كل الجهود المبذولة لطي صفحة الماضي سدى، وستختل معها العلاقة بين الحاكم والمحكوم بفقدان الثقة والضرب في مصداقية المؤسسات.
من هذا المنطلق نتساءل إلى أي حد يمكن القول أن المغرب قد تصالح فعلا مع ماضيه الحقوقي “الأسود”؟ وما هي الآليات التي اعتمدها في تحقيق تلك المصالحة؟ وهل استطاعت تلك الآليات أن تشكل ضمانات لعدم تكرار ما وقع من انتهاكات حقوقية؟ وباستحضار الأحداث التي تلت مرحلة الإنصاف والمصالحة (حركة 20 فبراير، أحداث الريف…) فهل يمكن القول أن المغرب عرف ردة حقوقية؟ أم أن تعامل الدولة مع تلك الأحداث له ما يبرره من جوانب قانونية تعفي الدولة من المسؤولية؟
المنهجية المعتمدة:
إن أقوى إكراه يواجه الباحث، هو مسألة الموضوعية، ودراسة الأحداث بشكل حيادي، ويتعاظم هذا الإكراه ويستشكل أكثر كلما تعلق الأمر بالبحث في العلوم الاجتماعية عموما، ولا سيما مجال السياسة. وهكذا فقد حاولنا معالجة الإشكالية وما يتفرع عنها من أسئلة وفرضيات باعتماد مقاربة تحليلية تركيبية، من خلال توظيف المنهج التاريخي في تطرقنا للمسار المعتمد في طي صفحة الماضي بدءا من إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، ثم إحداث هيئة التحكيم المستقلة، وانتهاء بتشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة، هذه المؤسسات التي تتطلب منا التطرق إلى وظائفها الشيء الذي يدعونا إلى الاستعانة بالمنهج الوظيفي، كما أننا استعنا أيضا بالمنهج المقارن في تعرضنا لبعض التجارب الدولية في مجال العدالة الانتقالية.
تقديم:
تعد الإشارة الصريحة إلى أدوات العدالة الانتقالية في سياق صنع السلام والعدالة أمرا مبتكرا، وهذه إحدى أقوى العلامات على اهتمام يتزايد بسرعة بالدور الذي يمكن لهذه الآليات أن تلعبه في المراحل الانتقالية[1]. وفي هذا الصدد يطرح السؤال: هل ينبغي تقديم المتورطون في خروقات حقوق الإنسان إلى العدالة قصد محاكمتهم والاقتصاص منهم بتطبيق العقوبات عليهم؟ أم أن الأفضل لأي نظام سياسي أن يعمل على البناء وإعادة الإحياء متجاهلا الماضي وأن يعفو عما سلف؟
يصرح فيدار هيلجيسين[2] أنه في بعض الظروف يمكن لآليات العدالة التقليدية أن تكون مكملا للأنظمة القضائية التقليدية، وأن تمثل خيارا محتملا حقيقيا لتعزيز العدالة والمصالحة وثقافة الديمقراطية. ويضيف أنه حتى الأوضاع التي تكون فيها المجتمعات المحلية أكثر ميلا للمطالبة بالقصاص الصريح والمباشر من المرتكبين، فإن آليات العدالة التقليدية يمكن أن توفر طريقة لاستعادة شعور بوجود المساءلة وربط العدالة بالتطور الديمقراطي.
في المغرب، يمكن النظر إلى عملية العدالة الانتقالية على أنها قد خلقت بيئة، بمعنى مساحة عامة أكثر حرية، تسمح للمجتمع المغربي بالنقاش حول مستقبله، بما في ذلك الوقوف على الخطوات الإضافية التي يحتاج إليها لتعزيز حقوق الإنسان وتحقيق الأهداف السياسية[3].
ثمت قضية أخرى ربما يجب الإشارة إليها هي خلق سردية جديدة لتاريخ البلد، بدأ ذلك في المغرب أثناء عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، وكان علامة على انتهاء “مؤامرة الصمت”[4]. هذه الهيئة التي أحدثت بغرض الطي النهائي لماضي الانتهاكات الحقوقية حيث جاء في خطاب العاهل المغربي محمد السادس بمناسبة تنصيبها: “…ها نحن اليوم بتنصيب لجنة الإنصاف والمصالحة، نضع اللبنة الأخيرة للطي النهائي لملف شائك، ضمن مسار انطلق منذ بداية التسعينات، والذي شكل ترسيخه أول ما اتخذناه من قرارات، غداة اعتلائنا العرش، ومع استحضار اختلاف التجارب الدولية.
في هذا المجال، فإن المغرب قد أقدم بحكمة وشجاعة على ابتكار نموذجه الخاص، الذي جعله يحقق مكاسب مهمة، في نطاق استمرارية نظامه الملكي الدستوري الديمقراطي، الضامن لحرمة الدولة والمؤسسات وحريات الإنسان وكرامته….”[5]
إن الحديث عن مفهوم العدالة الانتقالية يحيل بالضرورة إلى تلك الضمانات التي تمنحها هذه الآلية والتي تحول دون اقتراف مزيد من جرائم حقوق الإنسان، كما أن أهم أهداف هذه الآلية أن يتم التحقيق في هذه الجرائم في حالة ارتكابها وتحديد المسؤوليات وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومنح تعويضات للضحايا قصد جبر الأضرار، والعمل على تحقيق المصالحة الفردية والجماعية.
كما أن اقتران هذا المفهوم بقضايا الاختفاء القسري والتعذيب والاعتقال السياسي جعله يأخذ بعدا دوليا باعتبار مجموع هذه القضايا تحظى باهتمام مجموعة من المنظمات الدولية سواء الحكومية منها أو غير الحكومية.
وفي سياق هذا الضغط الدولي و المحلي، باشرت السلطة السياسية في المغرب إفراز شروط جديدة، تتوخى التصفية التدريجية لملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الذي شكل نقطة سوداء في مسيرة النظام السياسي المغربي لسنوات طويلة، وذلك عبر سلسلة من الإجراءات والتدابير اتخذت في اتجاهات مختلفة ومتوازية، ويبقى الجانب الأكثر بروزا في هذه الإجراءات كلها هو بناء الأجهزة والمؤسسات التي تمت وفق استراتيجية محددة، فكان على التوالي تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990، وخلق وزارة مكلفة بحقوق الإنسان سنة 1993، وإحداث مؤسسة ديوان المظالم سنة 2001، وصولا إلى إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة في نوفمبر 2003 كآلية من آليات العدالة الانتقالية تروم تصفية تركة الماضي من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان[6].
غير أن السجون المغربية اليوم لازالت تضم 500 “معتقل سياسي”، حسب ما صرح به رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، منهم معتقلو حراك الريف وحراك جرادة ونقابيون ومغنو راب ومدونون وصحفيون[7].
المطلب الأول: الحالة الحقوقية المغربية قبل “الإنصاف والمصالحة”
راكم المغرب منذ الاستقلال إلى وفاة الراحل الملك الحسن الثاني ملفات جسيمة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان تجلت في حالات الاختفاء القسري والاعتقال السياسي شهدت عليها مجموعة من المعتقلات السرية مثل تزممارت وغيرها (الفقرة الأولى)، الشيء الذي دفع المغرب إلى تبني مجموعة من الآليات والتدابير تصحيحية، في مرحلة لاحقة، قصد الطي النهائي للملفات العالقة وتحقيق الانفراج السياسي(الفقرة الثانية).
- الفقرة الأولى: مظاهر وتجليات انتهاكات حقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة من الاستقلال إلى وفاة الملك الحسن الثاني
لقد كان الصراع في البداية ومباشرة بعد الاستقلال، صراعا سياسيا محضا بين كل من المؤسسة الملكية آنذاك، والتي كانت تسعى لإرساء دعائم الدولة الحديثة كما تراها، وبين الحركة الوطنية وخاصة تلك المتأثرة بالأيديولوجية اليسارية، والتي كانت تطمح بدورها إلى خلق نظام للحكم يتلاءم وأفكارها المتعارضة في بعض الأحيان مع المصالح المادية والتوجهات الأيديولوجية الإسلامية للمؤسسة الملكية، حيث لم يكن الملك رئيس دولة حديثة وحسب، بل كان في نفس الوقت سلطان البلاد وأمير المؤمنين[8].
وهكذا شهد المغرب خلال تلك الفترة توترا كبيرا، وبحلول عام 1973 كانت قد توفرت جميع مقومات الانتهاكات الواسعة النطاق، تجريم الرأي السياسي، الاعتقال دون إذن قضائي، الاحتجاز دون سبب، التمديد بلا حدود الفترة التي يقضيها الفرد قيد الاعتقال تحت الحراسة النظرية، وإنشاء السجون السرية، وترسيخ ممارسة التعذيب[9]، خاصة بعد المحاولتين الفاشلتين لقلب نظام الحكم سنتي 1971 و1972، والتي كان من نتيجتهما حملات اعتقال واسعة النطاق، ومحاكمات عسكرية، وإعدام الذين قيل إنهم شاركوا فيهما[10].
وفي سنة 1973 نقل حوالي 58 من أفراد القوات المسلحة المحكوم عليهم بالسجن مددا متفاوتة إلى معتقل تازمامارت السري وأدت أحوال المعتقل الذي سجنوا فيه إلى معاناة طويلة مات بسببها البعض موتا بطيئا، وكانت المحاكمات تجري بصورة جماعية في معظم الحالات، بل وصورية، وأنزلت السلطات عقوبات على نطاق واسع.
على العموم، حصيلة المغرب من الانتهاكات الحقوقية اتخذت أشكالا متعددة من اعتقال تعسفي، وتعذيب، وإعدام خارج نطاق القانون والقضاء، واختفاء قسري وغيره، كما شهدت على هذه الانتهاكات مجموعة من المعتقلات السرية مثل تازمامارت، وأكدز، وقلعة مكونة، ودار المقري، ودرب مولاي الشريف، كما تم تسخير المساكن الخاصة المعزولة والفيلات لغرض الاعتقال السري والاختطاف القسري.
- الفقرة الثانية: مساعي الدولة لحلحلة الملفات العالقة ومظاهر الانفراج السياسي
شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين انطلاق دينامية جديدة خلقت نوعا من الانفراج السياسي الذي سمح ببناء توافقات سياسية جديدة. وتجلت تلك الدينامية في مبادرة العفو الملكي (1989) والإفراج سنة 1991 عن أزيد من ثلاثمائة من المعتقلين السياسيين الذين تمكنوا من مغادرة معتقلات تازممارت وأكدز وقلعة مكونة، قبل أن يصدر عفو ملكي شامل سنة 1994. كما تم في ذات السنة تحويل العقوبات من الإعدام إلى المؤبد[11].
وتجدر الإشارة إلى كون هذه الفترة تزامنت مع إقرار دستور 1992 الذي تضمنت ديباجته لأول مرة إحالة واضحة إلى حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا[12].
كما شكل تنصيب حكومة “التناوب التوافقي” إشارة قوية وإرادة حقيقية لتكريس مسلسل الانفراج السياسي.
مع العهد الجديد الذي انطلق في سنة 1999، اتضح جليا أن هناك توجها فعليا لترسيخ قطائع إيجابية مع التصورات والأساليب التي طبعت ممارسة السلطة في الماضي القريب. ولعل أبرز تجسيد لهذه الإرادة تمثل في إحداث هيئة التحكيم والمصالحة (2003) التي قادت التجربة المغربية في العدالة الانتقالية، وأرست دعائم نهج جديد في تعاطي الدولة مع ملف حقوق الإنسان، وسعيها لإيجاد حلول قانونية مستدامة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وملفات الاختفاء والوفيات رهن الاعتقال، وجبر ضرر ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999، وتعويضهم. وقد تمخضت عن الأهداف والتوجهات الإستراتيجية للعدالة الانتقالية، كما ترجمت في تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، مسارات إصلاحية أطلقت بدورها سلسلة من الديناميات، لعل أبرزها هو انخراط الدولة في ورش استكمال الإصلاحات التشريعية والمؤسساتية التي تعد عنصرا أساسيا في الالتزامات الدولية للمغرب[13].
المطلب الثاني: الحالة الحقوقية المغربية بعد “الإنصاف والمصالحة”
على الرغم من الانتقادات التي وجهت لهيئة الإنصاف والمصالحة سواء من طرف الضحايا أو من الهيئات الحقوقية الذين تمسكوا بضرورة إصدار اعتذار رسمي من قبل الدولة، والذين رفضوا فكرة طي صفحة الماضي عبر التسوية غير القضائية، والذين انتقدوا عجز الهيئة عن كشف مصير شخصيات بارزة مثل المهدي بن بركة، فإن الهيئةتمكنت من التوصل إلى نتائج لقيت تنويها من قبل أطراف دولية ووطنية، حيث قامت ببحث ودراسة أزيد من عشرين ألف ملف لضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والمعاملة السيئة، ومكنت تحرياتها من إجلاء حقيقة مصير 742 حالة مختلفة، كما عملت على تأمين التعويض المادي للضحايا وعائلاتهم، وتمكنت من الكشف عن المقابر السرية التي دفنت فيها الجثامين، وأوصت بتحويل مراكز الاعتقال إلى أماكن لحفظ الذاكرة، وإطلاق برامج تربوية وتشريعية للمصالحة مع الماضي، إلا أن فترة الربيع العربي حملت معها مجددا أسئلة مقلقة حول الحالة الحقوقية المغربية، جراء الاعتقالات التي طالت مجموعة من الأشخاص وبعض الصحفيين على خلفية أحداث الحسيمة وجرادة (الفقرة الأولى)، والتي لقيت ردود أفعال مختلفة بين من صنفها ضمن “الاعتقال السياسي” ومن نفى عنها هذه الصفة (الفقرة الثانية).
- الفقرة الأولى: الحالة الحقوقية المغربية في زمن “الربيع العربي”
شهد المغرب سنة 2011 مجموعة من التظاهرات منها ما أخذ طابعا محليا ومنها ما أخذ طابعا وطنيا، غير أن ما يوحدها تمثل في السعي إلى تحقيق مجموعة من المطالب الاجتماعية (التعليم، الصحة، الرفع من الأجور، القدرة الشرائية، المشاكل التي يعرفها التدبير المفوض في عدد من القطاعات الحيوية…) إضافة إلى المطالبة بالعيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، في هذا الصدد تأسست حركة 20 فبراير.
وقد كان على هذه الحركة الوليدة أن تفرض قواعد جديدة في حقل السياسة وذلك ما فعلته بحيويتها وسرعة انتشارها على رقعة البلاد وكذلك بعامل الثورات العربية الذي جعل النظام المخزني يتخذ المسافة اللازمة للهروب إلى الأمام حتى لا يلقى مصير نظرائه في تونس ومصر وليبيا[14].
كما همت الاعتقالات عددا من الصحفيين أمثال الصحفي علي أنوزلا، الذي ألقي عليه القبض في 17 شتنبر 2013 لنشره نصا نقلا عن جريدة البايس الإسبانية يتضمن رابطا يحيل على فيديو ينسب لتنظيم القاعدة[15]، والصحفي هشام المنصور الذي تم ترصد حركاته واقتحام منزله في شهر فبراير 2015 بالقوة من قبل فرقة كاملة من الشرطة بلباس مدني وتمت تعريته وتصويره كدليل إثبات واقتياده إلى سيارة الشرطة وهو يستر نفسه بغطاء لمزيد من تشويه صورته. وتم تقديمه للمحاكمة رفقة سيدة كانت في زيارته[16].
كما شهدت سنة 2016 منعطفا آخر نتيجة مقتل بائع السمك محسن فكري الذي ولد موجة من الاحتجاجات، بداية في مدينة الحسيمة ثم في منطقة الريف ليتحول الحراك الشعبي إلى المطالبة بعدة مطالب اجتماعية واقتصاديةوحقوقية. هذه الأحداث رافقها بدورها جملة من الاعتقالات التي طالت مجموعة من الصحفيين أمثال الصحفي حميد المهدوي، مدير موقع “بديل”، الذي تم اعتقاله في مدينة الحسيمة، أثناء تغطيته لمسيرة كان السكان يعتزمون تنظيمها يوم 21 يوليوز 2017[17].
- الفقرة الثانية: الحراك الاجتماعي وجدلية مفهوم “المعتقل السياسي”.
نشرت جريدة اليوم الإلكترونية على موقعها مجموعة من المواقف لبعض النشطاء الحقوقيين المغاربة حول الأحداث والحراك الاجتماعي بالمغرب، منها ما صنف هذه الأحداث ضمن خانة “المعتقل السياسي” ومنها من نفى عنها هاته الصفة، حيث أشارت أمينة بوعياش إلى كون الأشخاص المعتقلين على خلفية أحداث الحسيمة وجرادة لا يستوفون معايير “المعتقل السياسي”، مضيفة أن استخدام المجلس الوطني لحقوق الإنسان لمصطلح “المعتقل السياسي” في حالة نشطاء الريف وجرادة، “سيكون في غير محله وذا نتائج عكسية وغير مسؤول، وكان ذلك سيكون سابقة واستثناء على المستوى الوطني والدولي”.
في حين تشير الناشطة الحقوقية خديجة الرياضي إلى أن التعريف الشامل الذي وضعته منظمة العفو الدولية على صفة المعتقل السياسي ينطبق بشكل جلي وبدون وجه لبس على نشطاء الريف وجرادة، وهو الطرح الذي يزكيه النقيب عبد الرحمان بنعمرو الذي يرى أن تعريف المعتقل السياسي حتى وإن لم يرد في القانون المغربي فأن الأعراف الحقوقية ومنظمة العفو الدولية تعتبر كل معتقل حرية الرأي والتعبير هو معتقل سياسي. وأضاف أن: ” المعتقل السياسي هو كل من تظاهر بكيفية مشروعة، ولديه مطالب اجتماعية مشروعة ولم يستعمل العنف أو أي شيء، كما أن ذات الصفة لا ترفع عنه حتى لو استعمل العنف بحسب التعريف الصحيح، وبالتالي فجميع معتقلي الحركات الاجتماعية في المغرب هم معتقلون سياسيون”.
ويقول لحرش: «تعريف الاعتقال السياسي واضح جدا، والمطالب الاجتماعية التي رفعها نشطاء الحراكات الاجتماعية في المغرب لها بعد سياسي”.
وقالت الناشطة الحقوقية واليسارية لطيفة بوحسيني “نشطاء حراك الريف معتقلون سياسيون، لأنهم قادوا مسيرات سلمية دفاعا عن الكرامة، التي هي أساس أية سياسة تتوخى أمن البلاد وأمان العباد”.
هذا التضارب في الآراء حول مفهوم “المعتقل السياسي” دفعنا للبحث حول مفهوم المعتقل السياسي وفي أوجه الاختلاف التي تميزه عن باقي المصطلحات التي قد تبدو قريبة منه مثل سجناء الرأي ومصطلح الإجرام السياسي.
إن الدستور المغربي وكذا القوانين الوطنية لم يرد بها أي تعريف للاعتقال السياسي وهذا قصور تشريعي يمكن تداركه مستقبلا مع الإشارة إلى أن القوانين ذكرت فقط الجرائم السياسية كما هو منصوص عليه في القانون الجنائي مثل جريمة المس بالسلامة الداخلية للدولة والمؤامرة والدعوة إليها[18].
وهكذا نجد أن منظمة العفو الدولية قد عرفت سجناء الرأي في كونهم أشخاص لم يستخدموا العنف أو يدعوا إليه، ولكنهم مسجونون بسبب (الميول الجنسية أو الأصل العرفي أو القومي أو اللغة أو اللون أو الجنس أو الوضع الاقتصادي)، أو بسبب ما يعتقدون (وجهات نظر دينية أو سياسية أو غيرها من المعتقدات النابعة من الضمير).من خلال الشطر الأخير من هذا التعريف يتضح أن المعتقل السياسي يدخل ضمن زمرة سجناء الرأي باعتبار معتقده السياسي.
وبالمناسبة فالفقه في هذا المجال يفرق بين المعتقل السياسي والمجرم السياسي لكون الفرق بينهما كبير. ذلك أن المعتقل السياسي يتعرض للاعتقال للحد من حريته بمجرد أنه يؤمن بعقيدة أو فكر معين وآراء سياسية بل ولمجرد التعبير عن تلك الآراء السياسية والمعتقدات والأفكار التي يؤمن بها. عكس ذلك هو المجرم السياسي فإنه لا يقتنع ولا يكتفي بالإيمان بقلبه والانعزال بأفكاره والانطواء على عقيدته السياسية ولا يقف عند حد التعبير عن كل ذلك. إن المجرم السياسي في نهاية المطاف يمر من مرحلة الفكر والعقيدة ويتجاوزهما إلى مرحلة ثانية وهي درجة أعلى بالنسبة له من النضال وهي الممارسة على أرض الواقع بهدف تطبيق أفكاره أو عقيدته فتراه مندفعا من أجل ارتكاب أفعال جرمية مادية مقصودة[19].
وبالتالي فالفرق بين المعتقل السياسي وبين المجرم السياسي فرق كبير. فالمعتقل السياسي يتعرض للتوقيف وحجز الحرية لمجرد أنه يؤمن بعقيدة حزبية أو سياسية معينة أو لمجرد أنه عبر عن آرائه السياسية التي يؤمن بها. أما المجرم السياسي فإنه لا يكتفي بالانطواء على عقيدة سياسية معينة أو التعبير عنها، بل إنه يسمح لهذه العقيدة أن تدفعه إلى ارتكاب جرم مقصود معاقب عليه بالقانون مبتغيا نشر عقيدته السياسية أو تطبيقها أو حمايتها أو خدمتها، فهنا لم نعد أمام صاحب رأي يعتقل بسبب رأيه، وإنما نحن أمام شخص دفعته عقيدته السياسية إلى ارتكاب جريمة معاقب عليها، وشتان بين الحالتين[20].
ويستند الاعتقال السياسي على عناصر أساسية تجد مرتكزاتها في القانون الدولي لحقوق الإنسان ويمكن الإشارة إلى:
- الاعتقال بسبب ممارسة حقوق وحريات منصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان؛ مثل الحق في حرية الرأي والتعبير والتفكير والاعتقاد، والحق في الانتماء السياسي، النقابي، الثقافي، والحق في التظاهر السلمي، والتجمع…
- الاعتقال بسبب ممارسة مواطنات ومواطنين للحق في التظاهر السلمي، من أجل مطالب سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، ومواجهتها يعنف القوات العمومية، وهو اعتقال شائع تعرفه العديد من المدن بسبب تنامي الحركات الاحتجاجية.
- الاعتقال بسبب ممارسة أفراد أو جماعات للعنف من أجل فرض مطالب أو السعي لتغيير النظام السياسي بالقوة، أو ممارسة العنف ضد الخصوم السياسيين لإخضاعهم بالقوة لرأي معين[21].
توصيات على سبيل الختم:
قطع المغرب أشواطا كبيرة في درب ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، وتحلى بالشجاعة والجرأة عندما قرر فتح الملفات الماضية محاولا طي تلك الصفحة التي تسيء إلى سمعة البلد ، مسخرا بذلك كافة الآليات والتدابير الكفيلة بتحقيق هدف الكشف عن الحقيقة، وإنصاف الضحايا، والمصالحة مع عائلات الضحايا والمصالحة مع الوطن ككل بتركيز الجهود على عمليتي البناء والنماء، وفي هذا الصدد لا يمكن التنكر للمكاسب التي أتى بها دستور 2011 المتمثلة في مجموعة من المبادئ خاصة ما يتعلق منها بربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي قد يشكل في نظرنا، آلية رقابية وقائية لكل فعل أو سلوك، ثم مسألة الديمقراطية التشاركية التي تخول لعموم المواطنات والمواطنين المشاركة في تدبير الشأن السياسي والعمومي بما من شأنه أن يراعي الاحتياجات والأولويات وما من شانه أن يحد من التوترات والاحتجاجات.
ومساهمة منا في اقتراح بعض التوصيات التي نراها تصب في تحقيق الانفراج السياسي نرى:
- أنه من الأفيد، وعلى غرار “نداء الأمل” الذي أطلقه مجموعة من الشخصيات السياسية والأكاديمية والإعلامية والذي تفاعل معه العاهل المغربي بإصدار عفو شمل بعض المعتقلين، أن يتم تجديد هذا النداء على أمل أن يشمل العفو هذه المرة جميع المعتقلين على خلفية هذه الأحداث؛
- كما نوصي بتخصيص جزء من الميزانية المخصصة للبحث العلمي لإجراء دراسات وأبحاث يكون هدفها التوصل إلى مكامن الخلل وتعمل على توفير الضمانات التي تمنع تكرار هذا التوتر، وذلك بإشراك مختلف الأكاديميين والمختصين والباحثين؛
- كما ندعو إلى الاحتكام إلى التشريعات الوطنية والدولية في تحديد الحقوق وممارستها؛
- توسيع دائرة محاسبة المسؤولين عن تعثر وإفشال المخططات التنموية المجالية والمحلية.
المراجع:
1- لوك هويس، العدالة والمصالحة التقليديتان بعد الصراعات العنيفة: التعلم من التجارب الإفريقية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات.
2- هاني مجلي، تقديم “تجربة العدالة الانتقالية في المغرب” لصاحبه عبد الكريم عبد اللاوي، سلسلة أطروحات جامعية، مركز القاهرة لدراسة حقوق الإنسان، 2013.
3- خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس ملك المغرب بمناسبة تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة في 7 يناير 2004.
4-عبد الكريم عبد اللاوي، تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، مركز القاهرة لدراسة حقوق الإنسان، سلسلة أطروحات جامعية 10، 2013.
5- أنس رحيمي، الموقع العربي للتيار الماركسي الأممي، 8 مايو 2020.
6- محمد قديري، تطور حركة حقوق الإنسان في المغرب (من الاستقلال حتى 2016)، موقع مبادرة الإصلاح العربي.
7-“ممارسة حقوق الإنسان في المغرب”، فيلادلفيا، مطبعة جامعة بنسلفانيا،2005.
8- خطة العمل الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان (2018-2021)، وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان.
9- دستور المملكة المغربية لسنة 1992.
10- محمد الهداج، حركة العشرين من فبراير:ملامح ثورة هادئة، مجلة الغد، العدد الخامس، 2012.
11- عبد العزيز النويضي، “المغرب: حرية التعبير والإعلام بين القانون وممارسات الفاعلين السياسيين ودور القضاء”، يناير 2018.
12- عبد الملك زعزاع،”المعتقلالسياسي..دلالة المصطلح وجدلية المفهوم”،الموقع الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية المغربيpjd.ma
13- المحامي عبد الله سليمان علي، “حقيقة الاعتقال السياسي…من هو المعتقل السياسي؟”، جريدة الجمل الإلكترونية.
14- عمر أربيب،”الاعتقال السياسي.. المفهوم، الواقع والمنطلقات”،جريدة أغراس أنفو الالكترونية.
[1]– لوك هويس، العدالة والمصالحة التقليديتان بعد الصراعات العنيفة: التعلم من التجارب الإفريقية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، ص 16
[2]– الأمين العام للمؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات.
[3]– هاني مجلي، تقديم “تجربة العدالة الانتقالية في المغرب” لصاحبه عبد الكريم عبد اللاوي، سلسلة أطروحات جامعية، مركز القاهرة لدراسة حقوق الإنسان، 2013، ص7
[4]-المرجع نفسه، ص12.
[5]– من خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس ملك المغرب بمناسبة تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة في 7 يناير 2004.
[6]-عبد الكريم عبد اللاوي، تجربة العدالة الانتقالية في المغرب، مركز القاهرة لدراسة حقوق الإنسان، سلسلة أطروحات جامعية 10، 2013، ص26.
[7]– أنس رحيمي،
الموقع العربي للتيار الماركسي الأممي، 8 مايو 2020.
[8]– محمد قديري، تطور حركة حقوق الإنسان في المغرب (من الاستقلال حتى 2016)، موقع مبادرة الإصلاح العربي، 5 شتنبر 2017، تاريخ الزيارة 20/2/2021.
[9]-“ممارسة حقوق الإنسان في المغرب”، فيلادلفيا، مطبعة جامعة بنسلفانيا،2005، ص:21.
[10]– عبد الكريم عبد اللاوي، مرجع سابق، ص51.
[11]– خطة العمل الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان (2018-2021)، وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، ص6
[12]– جاء في تصدير دستور 1992: “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية، وهي جزء من المغرب العربي الكبير. وبصفتها دولة إفريقية، فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الإفريقية. وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإنها المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم.
[13]– خطة العمل الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، مرجع سابق، ص7.
[14]– محمد الهداج، حركة العشرين من فبراير:ملامح ثورة هادئة، مجلة الغد، العدد الخامس، 2012، ص:38.
[15]– عبد العزيز النويضي، “المغرب: حرية التعبير والإعلام بين القانون وممارسات الفاعلين السياسيين ودور القضاء”، يناير 2018، ص12
[16]– عبد العزيز النويضي، المرجع نفسه، ص 13
[17]– المرجع نفسه، ص 14
[18]– عبد الملك زعزاع،”المعتقلالسياسي..دلالة المصطلح وجدلية المفهوم”،الموقع الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية المغربيpjd.ma
[19]– عبد الملك زعزاع،”المعتقلالسياسي..دلالة المصطلح وجدلية المفهوم”،الموقع الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية المغربيpjd.ma
[20]– المحامي عبد الله سليمان علي، “حقيقة الاعتقال السياسي…من هو المعتقل السياسي؟”، جريدة الجمل الإلكترونية.
[21]– عمر أربيب،”الاعتقال السياسي.. المفهوم، الواقع والمنطلقات”،جريدة أغراس أنفو الالكترونية، نشر بتاريخ 18 ديسمبر 2014، تاريخ الزيارة: 21/2/2021