
وأخيرا…الديمقراطية
أي مقاربة تتوخى العلمية والموضوعية لمفهوم ما إلا وتقتضي تناوله لغة واصطلاحا.
وإذا كان أي مفهوم لغويا يعيش حياة وحيدة، فإنه اصطلاحا يعيش حيوات متعددة وذلك بأثر التعديلات والتدقيقات التي تمسه كنتيجة طبيعية لما يفرضه عليه الواقع من تعايش ومواكبة.
كذاك الأمر بالنسبة لمفهوم “الديموقراطية” فلقد كانت وستبقى لغة “حكم الشعب نفسه بنفسه” أما اصطلاحا فالتدقيقات والتعديلات التي مست طبيعة الشعب وكيفيات التطبيق والسلطات الناتجة عن الديموقراطية وكيفية الفصل بينها وعلاقة الديموقراطية بالمال والإعلام والمعرفة والقانون والعسكر وحظوظ الأقليات فيها…
هذه التحديدات هي التي تجعل الديموقراطية شاقة التحديد عصية التقييد حية لا جامدة خالقة للسجال وأحيانا للصراع. وكأنها صخرة سيزيف الخاصة بنا والتي نحن مطالبون بحملها من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا ما وصلنا منتصف الجبل تدحرجت إلى الوادي… إلى القاع، فنعود إلى رفعها أملا في إيصالها القمة…
فهل نظل هكذا للأبد؟ هل تصبح الديموقراطية رمز العذاب الدنيوي الأبدي؟
ما الذي يجعل القمة عصية المبتغى؟ ما الذي يجعل القاع جذابا؟ ما الذي يجرنا إليه؟
بأثر هذا الإنهاك والمحاولات المستمرة كان لزاما ومفهوما المطالبة بالتعديل… تعديل حجم الصخرة، و التوقف عند كل مرحلة لالتقاط الأنفاس، وربما حتى سلوك دروب انعطافية…
فكانت المطالب بالصندوق الزجاجي، بالورقة الفريدة، برفع العتبة، بغرفتين لا بغرفة واحدة، باقتراع بلائحة، بمزيد من الاختصاصات، بكثير من المبادئ: ربط المسؤولية بالمحاسبة، بالحكامة، بالحق والقانون… مالذي تغير ومالذي يأبى أن يتغير؟
هل الصندوق الزجاجي كاف للحكم على شفافية العملية الديموقراطية؟
مالذي يحدث قبل يوم الاقتراع وماذا يحدث بعده؟ وكيف هي طبيعة القوانين المنظمة للاقتراع؟ وكيف صيغت ومن صاغها ولأي اعتبارات؟
ومن حرم من المشاركة في الانتخاب والاقتراع؟ وما دور الإعلام وما دور المال الحلال منه والحرام؟ …
أسئلة كثيرة تتناسل تجعلنا نسلم أن الصناديق الزجاجية بقدر شفافيتها تخفي قتامة قبلية.
المفارقة أن من يجعلنا نكشف عن هذه القتامة إن وجدت هو النظام الديمقراطي ذاته.
لسنا في وضع شفاف تماما ولسنا في وضع الحلكة الحاجبة للرؤية… نحن في وسط الطريق، في المنزلة بين المنزلتين، في وضع نصف شفاف… وهنا يقعد الخلاف ممايزا بين وجهتي نظر متناقضتين؛ الأولى تنزاح إلى صبغ الحياة السياسية بالوردية الحالمة والثانية لا ترى إلا كل عيب وعليلة في النظام السياسي… وبينهما يعاني الوسطي الإصلاحي الذي يثمن كل حسنة و يعيب على كل نقيصة…
والحال أن الديموقراطية تقدم ذاتها في المغرب كجنين لم يكتمل في رحم الوطن؛ جنين عاش خيار الإجهاض أكثر من مرة ومنذ بداياته الأولى… وكأنه نتاج حمل زنى، وكأنه حمل غصب وليس نتاجا لعلاقة شرعية اتجهت فيه الشرعيات الوطنية إلى إيجاد توافق وتعاون على إنتاج مسار ديمقراطي بمبادئه الكونية وقطعا باحترام الخصوصيات المحلية الضاربة بجذورها في التاريخ وباستثمار أي سياق محفز.
لا نريد ولادة ديمقراطية/خدج رغم أن فرضية البقاء على قيد الحياة معتبرة ولأنه وبشكل عام كلما تقدم المولود في الحمل أكثر كانت فرصة نموه أفضل، وكانت أعضاؤه أنضج وكلما ازداد استعداد رئتيه لاستيعاب أي ضيق اختلاف … الولادة المبكرة عموما مكلفة لأنها تقتضي عناية مركزة وحتى في حالة البقاء على قيد الحياة إلا أن هناك آثار على المدى البعيد ، فهناك احتمالية التعرض للشلل الدماغي واحتمالية المعاناة من صعوبات التعلم…
على الجانب الآخر نقول كذلك أننا لا نريد ولادة متأخرة لأنها تحمل خطورة المولود/الديموقراطية وعلى الرحم/الديموقراطية… ومن منا يريد تحريضا على الولادة أو ما يسمى بالطلق الاصطناعي، ففي النهاية وبعد طول انتظار لا نريد مسخا…
نريد مولودا طبيعيا وبصحة عالية وابن البيئة لا مغتربا وكاملا غير منقوص، دائما غير منقطع…
حالة الولادة حالة ممزوجة بالخوف و الرغبة بالمفاجأة والفرحة بالانقباض والانشراح … أكيد أنها حالة صعبة…
حينما نرفع شعار “الديموقراطية أولا” علينا أن نحزن… لأننا وفي القرن الواحد والعشرين لازلنا في قاعة الانتظار الكبيرة بتعبير الجابري ويبدو انتظارنا وكأنه حكم المؤبد وما يحز أكثر أن التعويل على الكتلة التاريخية تعويل ساذج… فحتى وبعد الانقلاب الدستوري في 2011 والذي كرس الاختيار الديمقراطي كتابث من الثوابت الوطنية وبعد التعديلات التي مست البنية و الموضوع لازال الواقع يحاكمنا بحكومة من ست أحزاب رغم أن الناخب ثار صوته من الصندوق مفصحا عن مشهد سياسي بدا واضحا … لكن النخب لم تكن في مستوى الوضوح وأبت إلا أن تبخس الصوت الانتخابي… فكانت الكلفة وكان التكلف.
علينا أن نرفع الديموقراطية عالياً، وعليها أن تكون قضية الشباب بامتياز لأنها لبنة بناء الغد. وهي قضية تستحق النضال.