الخطأ القضائي في مدلول الدستور:من أجل حمولة دستورية.

L’erreur judiciaire: pour une portée constitutionnelle

ذ.عمرو الصادق

المصدر:دراسة منشورة في مجلة المعرفة القانونية والقضائية- العدد الأول 2017 ص 64-51

مقدمة:

ليس ترفا لغويا أن يعنون هذا البحث باللغتين العربية والفرنسية، وإنما اعتبارا لما يثيره الفصل 122 من الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 بين نصيه العربي والفرنسي من تباين على مستوى الدلالة القانونية – لكلمتي “خطأ” و “غلط” وما كان لذلك التباين من اثر في عمل الباحثين بعد قراءتهم النص العربي للفصل المذكور بخلفية مدنية، ظهر أثرها جليا في تصورهم لهذا “الخطأ” ضمن أبحاثهم، التي تناولت هذا المستجد الدستوري بالدراسة.

لنورد أولا نص المقتضى الدستوري باللغتين العربية ثم الفرنسية:

 

  • النص العــربي:

 

” يحق لكل من تضرر من خطا قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة “.

 

  • النص الفرنسي:

 

Les dommages causés par une erreur judiciaire ouvrent droit à une réparation à la charge de l’État.

ولنتساءل بداية… و المؤكد في لغة القانون أن كلمة “خطأ” الواردة في النص العربي لیست معجميا ولا قانونيا هي كلمة ” غلط ” الواردة في النص الفرنسي:

و هل الأمر خطأ في الترجمة؟ أم أن تعبير “الخطأ” وللدلالة على معناه الدستوري لا يمكن صياغته باللغة الفرنسية إلا بالصبغة التي ورد بها في النص الفرنسي للفصل 122 من الدستور؟ ولا نكون في هذه الحالة أمام أي خطأ في الترجمة.

الرأي عندي:

أن الأمر لا يتعلق فيها بأي خطأ.

والسند ذلك أمران:

– الأول:

أن تعبير “الخطأ” الوارد في النص العربي له حمولة دستورية تبعد مضمونه و الخطأ في أصله المدني كما سنرى ذلك لاحقا.

– الثاني:

أن القول بغير ذلك يقتضي التسليم بأن المشرع الدستوري يقصد أن الأمر يتعلق بخطأ.

ولا مناص والحالة هذه من البحث عن هذا “الخطأ” الذي تتحمل الدولة بما الفصل 122 من الدستور التعويض عن الضرر المترتب عنه.

وهنا يطرح التساؤل:

هل الأحكام القضائية تصدر عن الدولة و قطعا لا، فالدولة هي “مؤسسة المؤسسات”  ومن نافلة القول أن الأحكام تصدر عن المؤسسة الدستورية المختصة وهي السلطة القضائية. فكيف يتأتى والحالة هذه البحث في حق الدولة عن خطأ قضائي في حكم ليس لها أن تصدره؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن أن ينسب لها ارتكاب خطأ ما ؟.

مؤدى ذلك يفيد بكل تأكيده:

أن تعبير “الخطأ” الوارد في النص الدستوري وبسبب الاستحالة الدستورية لأن تصدر الدولة أحكاما قضائية لا ينطوي على معنى الخطأ المألوف في المجال المدني. وهذا يقودنا بسلاسة إلى تلمس الحمولة الدستورية التعبير” الخطأ” الوارد في النص الدستوري: بعده التام عن المعنى المدني للخطأ.

أما الذي يلفت النظر بعد ذلك عند قراءة عموم الأبحاث ذات الصلة التي تم نشرها والإطلاع عليها بل وحتى الأكاديمي منها هو:

تسرب مفهوم الخطأ في أصله المدني إلى أذهان أصحاب تلك الأبحاث نتج عن إسقاطهم ذلك المفهوم على تعبير “الخطأ” الوارد في النص الدستوري ابتعادهم في تحليلهم الفكرة الخطة القضائي عن الإطار الدستوري الذي وردت فيه، وهذا الإسقاط أمر منتقد، في مس ومن حيث لا يقصد أصحابه مسالة علمية تتصل بأسلوب قراءتهم تعبير “الخطأ” الوارد في الفصل 122 من الدستور باستحضارهم مدلول الخطأ المدني.

وذلك: أخرج مفاهيم عن سياقها (إخراج تعبير “الخطأ” الوارد في الفصل 122 من الدستور عن سياقه الدستوري) واسقط أخرى على غير سياقها (إسقاط مدلول الخطأ المدني على تعبير “الخطأ” الوارد في النص المذكور من الدستور) وهو ما لا نراه صائبا.

وانطلاقا من هذه المقدمة، نقسم البحث في هذا الموضوع إلى فصلين:

الفصل الأول: نخصصه لمقاربة نقدية لأسلوب الدراسة المتبع في الأبحاث المشار إليها في موضوع الخطة القضائي بعد المستجد الدستوري.

الفصل الثاني: نخصصه للمقاربة المعتمدة عندنا.

 

الفصل الأول:المقاربة النقدية

قبل استعراض هذه المقاربة:

نبادر إلى القول والتأكيد:

أن هذا البحث قاصر على تناول الخطة القضائي في إطار الفصل 122 من الدستور مستبعدين تناول الخطة القضائي الذي تقوم مسؤوليته على أساس الخطأ الشخصي للقاضي.

ولكن، ما هو تعريف الخطأ القضائي الذي يحق لكل متضرر منه الحق في تعويض تتحمله الدولة ؟

المشرع الدستوري سكت عن ذلك. وهو إذ لم يفعل، يبقى الأمر متروكا للفقه والقضاء. وعلى حد ما وسعني الجهد، لم أعثر على تعريف يستحضر الحمولة الدستورية لذلك الخطأ.

ولأن الخطأ القضائي بتلك الحمولة يجد ملامحه وجذوره الأولى في قانوني المسطرة الجنائية والمسطرة المدنية كما سنرى ذلك عند عرض مقاربتنا في الموضوع.

ولأنه في القضايا الجنائية أفدح لمساسه بحرية الفرد وقد يكون بحياته، نسوق له تعريفان للباحثين الفرنسيين:

  1. Une erreur judiciaire est” une erreur de fait commise par une juridiction de jugement dans appréciation de la culpabilité d’une   personne poursuivie-
  2. l’erreur judiciaire est un phénomène sous-estimé qui n’est souvent découvert qu’après par le coupable disculpé eut passé de nombreuses années en prison

والملفت في هذين التعريفين؛

اقتراب فحواهما إلى حد التطابق مع مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 612 من الظهير الشريف رقم 58.1.261 بتاريخ 10 فبراير 1959 (الملغي) الذي كان يحتوي على قانون المسطرة الجنائية وكذا الفقرة الرابعة من الفصل 613 من نفس القانون في نصهما الفرنسي.

وللإفادة نورد نصي الفقرتين المذكورتين باللغتين الفرنسية والعربية:

 

  •  نص الفقرة الأولى من الفصل 612 المذكور باللغة الفرنسية:

 

“La révision n’est ouverte que pour la réparation d’une erreur de fait commise au détriment d’une personne condamnée pour un crime ou un délit.”

– نص الفقرة باللغة العربية:

“لا يفتح باب المراجعة إلا لتدارك خطأ – واقعي تضرر منه شخص حكم عليه من أجل جناية أو جنحة”

– نص الفقرة الرابعة من الفصل 613 المذكور باللغة الفرنسية:

“Lorsque après une condamnation, un fait vient à se produire ou à se révéler, ou lorsque des pièces inconnues lors des débats sont présentées, de nature à établir l’ innocence du condamné.”

– نص الفقرة باللغة العربية:

“إذا طرأ بعد صدور الحكم بالإدانة أو اكتشف أمر أو وقع الاستدلال بمستندات كانت مجهولة ومن شأنها أن تثبت براءة المحكوم عليه”.

وللفائدة نسوق المقتضيات المقابلة في قانون المسطرة الجنائية الحالي:

المادة 565 فقرة 1:

“لايفتح باب المراجعة إلا لتدارك خطا في الوقائع تضرر منه شخص حكم عليه من أجل جناية أو جنحة”.

المادة 566 الفقرة الرابعة:

” إذا طرأت واقعة بعد الحكم بالإدانة أو تم الكشف عنها أو إذا تم تقديم مستندات كانت مجهولة أثناء المناقشات ومن شأنها أن تثبت براءة المحكوم عليه”.

ومن الفقه الغربي أيضا نسوق تعريفا أكثر شمولا هو التالي:

“الخطأ القضائي هو عدم مطابقة الحقيقة القضائية التي تلفظها العدالة من خلال الأحكام للحقيقة التي تكشفها الوقائع فعلا على الأرض”..

وبعد عرض تلك التعاريف، نشرع في بسط مقاربتنا النقدية ونقول:

إن الأساس المعتمد لدينا في نهج هذه المقاربة يقوم على نقد منهجية التحليل المتبعة في الأبحاث التي نهجت سبيل إسقاط مفهوم الخطأ المدني على تعبير “الخطأ” الوارد في الفصل 122 من الدستور، الشيء الذي ترتب عنه أن تعذر على الباحثين تلمس حقيقة وطبيعة ذلك الخطأ” لدرجة خلطه – في غياب أية مقاربة معيارية – مع غيره من الأخطاء القضائية التي لا تندرج ضمن تلك التي تسال عنها الدولة في إطار الفصل 122 من الدستور.

وهذا هو الوجه الأول في مقاربتنا النقدية. والثاني وهو نتيجة له:

… جعل القارئ يتلمس صعوبة ومجاهدة لدى الباحثين في الفصل بين مجالات الخطأ القضائي للتمييز بين ما يقع منها تحت طائلة الفصل 122 المذكور وما لا يقع منها تحته.

وبالقدر الذي يتلاءم مع حجم البحث، نعرض بإيجاز لهذين الوجهين من المقاربة مخصصين مبحثا لكل واحد منهما نبسط من خلاله تجليات كل وجه في الأبحاث التي تناولت الخطأ القضائي في إطار الفصل 122 من الدستور.

المبحث الأول:وجه المقاربة النقدية الأول: الإسقاط.

 

أ- نموذج البحث الأول:

 

“فبالرجوع إلى مقتضيات الفصل 122 من الدستور نجده ينص على أنه: “يحق لكل تضرر من خطا قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة”. إن مفهوم الخطأ هنا يحيا الخطأ الموجب لمسؤولية الدولة والذي يترتب عنه تعويض المتضرر وفق القواعد العامة المسؤولية المرافق العمومية”.

– مكمن المقاربة في هذا النموذج.

و لاحظ أن الباحث هنا وقد تناول موضوع الخطأ القضائي في ظل الدستور قد أحال فيما يخص مفهومه على الخطأ الموجب لمسؤولية الدولة وفق القواعد العامة لمسؤولية المرافق العمومية، علما أن هذه المسؤولية الأخيرة هي مسؤولية خطئية. ولا أدل على هذا من إسقاط مدلول الخطأ المدني على تعبير “الخطأ” الوارد في نص الفصل 122 من الدستور مع أن مسؤولية الدولة في ظل الفصل المذكور ليست مسؤولية خطئيه.

ب-نموذج البحث الثاني:

“من خلال الحكم تتبين بعض المسائل الإشكالية التي قد تعترض العمل القضائي مستقبلا تتمثل أولاهما في أن النص الدستوري جاء على إطلاقه وعمم مضمونه على مرفق القضاء سواء منه العادي أو المتخصص والحالة هذه القاضي الإداري، ومادام الأخير أقر باختصاصها نوعيا للبت في التعويض عن الأخطاء القضائية فكيف يكون التطبيق العملي لهذا الاختصاص إذا كانت هي مرتكبة الخطأ هل يمكن أن تكون خصما وحكما في نفس الوقت و ما دام القضاة بشر معرضون للخطأ كيف سيكون التعامل إذا صدر هذا الخطأ وتم رفعه عند نفس المحكمة الإدارية ؟.

– مكمن المقاربة في هذا النموذج:

… طرح الباحث هنا إشكالا حول التطبيق العملي لذلك النص متى كان الخطأ القضائي صادرا عن القضاء الإداري مع أن هذا الأخير أقر لنفسه الاختصاص نوعيا بالبت في التعويض عن الأخطاء القضائية.

وطرح الإشكال بهذه الصورة نابع من قراءة الباحث لتعبير “الخطأ” الوارد في النص الدستوري بخلفية استحضر فيها مدلول الخطأ المدني وأسقطه على تعبير “الخطأ” الوارد في النص الدستوري المذكور مع أن حقيقة مدلول “الخطأ” في هذا السياق هو المعبر عنه في النص الفرنسي بتعبير “الغلط”. والغلط يمكن أن تقع فيه أية جهة قضائية يجعل الحكم القضائي الصادر عنها لا علاقة له بالحقيقة الواقعية دون أن تكون مرتكبه لأي خطأ.

وإزاء ذلك:

لا غرابة أن يصدر عن القضاء الإداري حكم على أساس من الغلط، خال من ارتكاب أي خطا، يندرج بطبيعته تلك تحت مدلول الخطة القضائي المنصوص عليه في الفصل 122 من الدستور يختص هو نفسه بالبت في طلب التعويض عن الضرر المترتب عنه، دون أن يجتمع فيه الخصم والحكم ولا يطرح تبعا لذلك أي إشكال. وإذا كان التساؤل يبدو منطقيا لأول وهلة، فمرد ذلك يعزى إلى إسقاط الباحث مدلول الخطأ المدني على تعبير “الخطأ” الوارد في الفصل 122 من الدستور. وقد تم بيان أن ذلك ليس صحيحا.

المبحث الثاني:وجه المقاربة النقدية الثاني.

صعوبة الفصل بين مجالات الخطأ القضائي

 أ- نموذج البحث الأول:

“إن استعمال المشرع الدستوري لعبارة “الخطأ القضائية في الفصل 122 من شأنه أن يجعل الباحث القانوني أمام… التأويلات المتصلة بماهية الخطة القضائي من حيث موضوعه، بمعنى هل يتعين أن يحمل على إطلاقه من ثم حشر جميع الأخطاء المرتكبة من طرف القضاء مفهوم الخطأ القضائي، أم يتعين حصر ذلك المفهوم وفق ضوابط محددة؟”

– مكمن المقاربة في هذا النموذج.

لاحظ أن الباحث في هذا النموذج يتساءل فيما يخص التأويل المتصل بماهية الخطأ القضائي من حيث موضوعه ما إذا كان يتعين أن يحمل على إطلاقه ومن ثم حشر جميع الأخطاء المرتكبة من طرف القضاء في مفهوم الخطأ القضائي أم يتعين حصر ذلك المفهوم وفق ضوابط محددة ؟

فما الذي دعا إلى ذلك التساؤل؟

هل لأن تعبير “الخطأ القضائي” فضفاض ويحتمل ذلك التساؤل أم لأن الأخطاء القضائية عديدة ومتنوعة ولنختزل الأمر ونجمعها كلها تحت سقف الخطأ القضائي.. بمدلول الفصل 122 من الدستور.

فأما الافتراض الأول

فهو غير وارد، لأن التعبير واضح لا يكتنفه أي غموض.

وأما الافتراض الثاني

صحيح أن الأخطاء القضائية في صورتها العامة عديدة ومتنوعة. لكن: يميز منها تلك التي لا تندرج تحت “الخطأ” الوارد في النص الدستوري أنها أخطاء حقيقية، ملموسة ماديا تنسب للقاضي وقابلة للتشخيص قضائيا. تعرض للمناقشة إثباتا أو نفيا، تكيف أخطاء عمدية أو غير عمدية، تقدر إما جسيمة أو خفيفة. ولا شيء من ذلك كله فيما يخص الخطأ القضائي بالمعنى الوارد في الفصل 122 من الدستور.

نستخلص من ذلك:

معيارا يميز الخطأ القضائي الذي يقع تحت طائلة الفصل 122 من الدستور عن غيره من الأخطاء القضائية التي لا تقع تحت طائلته مؤداه أن هذه الأخيرة هي أخطاء مادية حقيقية تعالج قضاء على النحو المبسوط أعلاه فضلا عن اختلاف مرجع الحق في التعويض بينهما حيث هو النص الدستوري مباشرة في النوع الأول فيما القواعد العامة للمسؤولية المستقاة من قانون الالتزامات والعقود هي مرجع التعويض عن الأضرار المترتبة عن الأخطاء القضائية الأخرى.

ب-نموذج البحث الثاني:

 

 

“… وثاني هذه المسائل تتجلى في صعوبة وضع حدود فاصلة بين مسؤولية الدولة من الأخطاء القضائية التي تستوجب التعويض والمسؤولية الشخصية للقاضي التي تستوجب مسطرة أخرى تتمثل في مخاصمة القضاة المنصوص عليها في المادة 391 من قانون المسطرة المدنية والتي لن تقبل إلا لأسباب محددة نظمها المشرع في مختلف القوانين المسطرية ولنط تساؤل آخر هل يستطيع المتضرر من الخطة القضائي أن يثير المسؤولية الشخصية للقاضي؟

لاحظ ما تبين للباحث من إشكالية “تتجلی في صعوبة وضع حدود فاصلة،بين مسؤولية تستوجب الدولة عن الأخطاء القضائية التي تستوجب التعويض والمسؤولية  الشخصية للقاضي التي تستوجب مسطرة أخرى تتمثل في مخاصمة القضاة…”

وقد سبق بيان كنه الخطأ القضائي في حمولته الدستورية من كونه لا ينطوي على مفهوم الخطأ في دلالته المدنية بل لا يتضمنه أصلا. فلا صعوبة بعد ذلك للفصل بين الخطأ القضائي الذي تتحمل الدولة تعويض الضرر المترتب عنه في إطار الفصل 122 من الدستور والخطأ الشخصي للقاضي الذي هو خطا حقيقي وملموس متى صدر عنه.

أما التساؤل حول ما إذا كان في إمكان المتضرر من الخطأ القضائي إدارة المسؤولية الشخصية للقاضي:

يجرنا هذا ثانية إلى غياب النظرة المعيارية الكفيلة بفصل الخطأ القضائي في سياقه الدستوري عن غيره من الخطأ القضائي الذي لا يندرج فيه. وقد سبق بيان المعيار المميز بينهما، نستطيع الجزم أنه يتعذر ذلك على المتضرر لاختلاف سبب الدعوى المؤسسة على مقتضيات الفصل 122 من الدستور وهو الضرر عن سبب الدعوى مواجهة القاضي الذي هو خطته الشخصي.

الفصل الثاني:مقاربتنا للموضوع.

تقوم مقاربتنا بالضرورة على أنقاض المقاربة النقدية التي خصص لها الفصل الأول من هذا البحث.

إذ:

باستبعاد منهج إسقاط مدلول الخطأ المدني الذي تبناه الدارسون للخطة القضائي يفي ضوء دستور 2011 ومعهم شطر من قضاء المحاكم الإدارية، وسيرا نحو استكناه حقيقة تعبير “الخطأ” الوارد في النص الدستوري استكناها لا ينفصل عن الإطار الدستوري الذي ورد فيه باستحضار الصيغة الفرنسية لذلك النص، نكون قد أفصحنا عن جوهر منهجنا القائم

على:

– 1: استبعاد آلية الإسقاط:

أدهشنا بالفعل أن يجنح الباحثون إلى تبني مفهوم الخطأ المدني عند قراءتهم لتعبير “الخطأ” الوارد في نص الفصل 122 من الدستور. ولعل ذلك ناتج عن اقتصارهم في قراءتهم ذلك النص على صيغته العربية وبخلفية مدنية. وإذ النص يتضمن تعبير “الخطأ”، أجبرهم تسرب فكرة الخطأ المدني إلى أذهانهم على البحث عن أساس (وجود خطأ) يبرر الحكم  بالتعويض الذي كفله النص المذكور، وفات أصحاب هذا النظر أن سبب التع يكفله الفصل 122 من الدستور هو الضرر الذي يصيب المتضرر من الخطأ القضائي .وليس الخطأ. وهذه القراءة “الإسقاطية هي التي أخرجت مضمون “الخطأ في الفصل المذكور من سياقه الدستوري إلى سياق مدني افقد هذا “الخطأ” هويته، أو مسماه الدستوری وألبسه مضمونا مدنيا ابتعد به كثيرا عن دلالته الدستورية.

– 2 استكناه البعد الدستوري لتعبير “الخطأ القضائي في الفصل 132من الدستور.

لنعد إلى ما ورد في مقدمة هذا البحث من ملاحظة ذلك التباين لغة وقانونا بين تعب “الخطأ” الوارد في الصيغة العربية للنص وتعبير “الغلط” الوارد في صيغته الفرنسية. وتساءلنا حينئذ فيما إذا كان في الأمر خطأ في الترجمة؟. وانتهينا إلى أن الأمر ليس كذلك انطلاق من أن تعبير “الخطأ” الوارد في هذا النص له حمولة دستورية لا يمكن التعبير عنها باللغة الفرنسية إلا بلفظ أو تعبير “الغلط”.

وبيانا لذلك هبنا أولا نفترض على سبيل الجدل أن في الأمر خطأ في الترجمة

هذا يجبرنا على الاحتكام إلى مقتضيات الدستور في فصله الخامس الذي ينص على أن النص العربي هو النص الرسمي .وبمقتضى هذا الافتراض، يجب التسليم بأن النص الفرنسي قد اعتراه خطا في الترجمة للقول آنذاك بأن المشرع الدستوري قد جعل من الخطأ أساسا لقيام مسؤولية الدولة عن “الخطأ القضائي”.

لنختبر هذا الافتراض:…

… في اتجاه إقامة الدليل على عدم وجاهة إسقاط المدلول المدني للخطأ على تعبير “الخطأ” الوارد في الفصل 122 من الدستور وللبرهنة على الحمولة الدستورية لذلك التعبير.

 

  • أما عن الأمر الأول

 

فالقول بأن مسؤولية الدولة لتعويض المتضرر من الخطأ القضائي تقوم على بالمعنى الذي يتبناه مذهب “الإسقاط” يقتضي بداهة وجود خطأ بتم بعد ذلك تقييمه إن كان عمدا أو بإهمال، خفيفا أو جسيما إلى غير ذلك من مظاهر تقييمه. كم تم هو المهم: نسبته إلى مخطئ.

فكيف يمكن التوفيق بين عدم ارتكاب الدولة ماديا لأي خطأ وصفه الدستور ب “الخطأ القضائي” وبين مسؤوليتها عنه مع أن مصدره حكم قضائي لا يصدر دستوريا إلا عن السلطة القضائية والحاصل كما سنرى أنها حتى وهي تسأل عن ضرر مصدره حكم قضائي أن هذا الحكم نفسه الذي يتمثل فيه “الخطأ القضائي” لم يرتكب فيه أي خطأ.

فعلا هو أمر يجافي المنطق. ونتيجة حتمية لمذهب إسقاط المفهوم المدني للخطأ على “الخطأ القضائية بحمولته الواردة في الفصل 122 من الدستور.

 

  • وأما الأمر الثاني وللدلالة على الحمولة الدستورية للنص

 

هنا تحضرنا أهمية النص الفرنسي للفصل 122 من الدستور، وسبق أن أوضحنا في المقدمة أن هذا الفصل ليس ترجمة معجمية ولا قانونية للنص العربي ولا هذا الأخير هو ترجمة للأول فيما يخص مصطلحي الخطأ والغلط.

فالنص باللغة الفرنسية يتكلم عن الغلط. وهو شيء متميز عن الخطأ كونه يتصل بالإرادة في شكل تصور غير حقيقي للواقع يصمها بالعيب يبطل معه العمل الذي يقع تحت وطئته. وذلك التصور غير الحقيقي للواقع يبعد عن الغلط كل عمد أو إهمال الذين هما عصب الخطأ كسلوك ملموس فعلا كان أو امتناعا خلافا للغلط الذي هو مسالة ذهنية ليس فيه شيء من ذلك تماما.

إذن:

انطلاقا من كون الغلط هو الأساس لتقرير مسؤولية الدولة عن “الخطأ القضائي” وليس الخطأ، نكون بصدد وضع اليد على كنه وهوية الخطأ في حمولته الدستورية.

واختبار ذلك عملا:

نستند فيه إلى تطبيق قضائي شهير يتعلق الأمر فيه بقضية المرحوم عبد الواحد بن محمد المولي علما أن قضيته نظر فيها القضاء الإداري قبل سنة 2011 التي صدر فيها الدستور الجديد.

في هذه القضية

أدين المرحوم عبد الواحد بن محمد المولي من أجل جريمة قتل لم يرتكبها. ولكن: متى تبين ذلك؟.

بعد سنوات من صدور الحكم في حقه امتدت إلى حين ظهور القاتل الحقيقي بعد ذلك سلوك طريق الطعن بالمراجعة لتبرئة المرحوم من جريمة القتل العمر من اجلها على غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بمدينة الجديدة.

وهنا نتساءل

هل كان لغرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف أثناء نظرها في القضية هل أصدرت قرارها مقتنعة به في ضوء ما راج أمامها من مناقشة أن تعلم بأن المتهم الماثل أمامها لم يقترف جريمة القتل العمد التي أحيل على المحكمة من اجلها؟

الجواب

… ما كان لها ذلك قطعا. والسبب في ذلك:

أنها لم تكن تعلم وهي بصدد دراسة القضية ثم مناقشتها بعد ذلك ومن كل الأطراف بأن القاتل الحقيقي هو شخص غير الشخص الماثل أمامها ولا كانت تعلم أنذاك أنها على هامش الحقيقة الواقعية حين أدانت وعاقبت الماثل أمامها من أجل جريمة ثبت لاحقا أنه لم يرتكبها.

وبعد ذلك

هل يستطيع أحد من الناس باحثا كان أو قاضيا أو محاميا القول أن المحكمة قد أخطئت عندما أدانت المرحوم عبد الواحد بن محمد المولي من أجل ارتكابه جناية القتل العمد وعاقبته بالسجن المؤبد ؟

الجواب هنا أيضا

… قطعا بالنفي.

هذا ينتهي بنا بصورة تلقائية إلى تلمس جذور ونواة “الخطأ القضائي” المنصوص عليه في الفصل 122 من الدستور في قانون المسطرتين الجنائية والمدنية.

وقد عرضنا لمقتضيات المسطرة الجنائية سابقا، يكون من تمام الفائدة أن نعرض فصول قانون المسطرة المدنية ذات الصلة الواردة في القسم الثامن منه المتعلقة بإعادة النظر:

الفصل 402 الفقرات 2- 3-4:

– الفقرة 2: “إذا وقع تدليس أثناء التحقيق في الدعوى”.

– الفقرة 3: ” إذا بني الحكم على مستندات اعترف او صرح بانها مزورة وذله صدور الحكم”.

– الفقرة 4: “إذا اكتشفت بعد الحكم وثائق حاسمة كانت محتكرة لدى الأخر”

والمشترك بين أحكام الفقرات السابقة من مواد قانون المسطرة الجنائية والفقرات أعلاه من قانون المسطرة المدنية أنها شرعت لممارسة طعون غير مادية ضد أحكام تبين أن الحقيقة القضائية التي نطقت بها لا علاقة لها مطلقا بالحقيقة الواقعية الموجودة على الأرض رقم اله لا يمكن في تلك الأحكام نسبة أي خطأ شخصي للقاضي.

لا بل الأكثر من ذلك

أن مقتضيات الفصل 406 من قانون المسطرة المدنية صريحة في أن “يرفع طلب إعادة النظر إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المطعون فيه ويجوز أن يبت فيه نفس القضاة الذين أصدروه “.

فاني يمكن الكلام عن خطأ شخصي للقاضي في الحكم المطلوب فيه إعادة النظر وها هو المشرع قد أعطى لنفس المحكمة وأجاز لنفس القضاة سلطة البت في طلب إعادة النظر في ذات الحكم الذي أصدروه هم شخصيا . إن كان المشرع قد يخطئ فهو لا يعبث.

ومن ثمة:

ألا يجوز الكلام هنا عن “خطأ قضائي” تنفصم فيه الحقيقة القضائية بالمطلق مع الحقيقة الواقعية في الحكم الذي وصمه هذا الخطأ في مرحلة قضائية طبق فيها التشريع العادي وأن هذا التشريع العادي نفسه خول من خلال مقتضيات قانون المسطرة المدنية الحق

في طلب إعادة النظر فيه مع معطي جوهري هو الضرر إن خلفه ذلك الحكم ارتقى به إلى مصاف “الخطأ القضائي” الذي يقع تحت طائلة الفصل 122 من الدستور ؟

ومنتهى الرأي 2 الفصل 122 من الدستور بعد القول إن:…

… قيام مسؤولية الدولة عن “الخطأ القضائي” لا تقوم على الخطأ لمجرد أن المشرع الدستوري استعمل ذلك المصطلح في النص العربي في الفصل 122 منه وإنما تقوم على سند من الغلط الذي قد تقع فيه أية جهة قضائية عادية أو متخصصة تكون فيها الحقيقة القضائية التي نطقت بها أحكامها منقطعة الصلة بالحقيقة الواقعية الموجودة على الأرض.

القول:

– أن الأمر في ذلك الخطأ، لا يتعلق بفكرة الخطأ المألوفة في تشريع وفقه وقضاء القانونين المدني والإداري.

– إنه بطبيعته تلك المنطوية على حمولة دستورية يبقى العمل به محصور في الإطار الدستوري الذي ورد فيه ولا يمكن تمديده لأكثر من ذلك المقتضى الدستوري لانتفاء فكرة الخطأ فيه أصلا ووجودها بالفعل في غيرها من الحالات التي يرتكب فيها القضاء أخطاء يترتب عنها ضرر لمرتفق القضاء.

والخلاصة النهائية لهذا البحث:

أن الخطأ القضائي بصفة عامة له مجالان متميزان عن بعضهما تمام التميز:

– أولهما:

ذلك المألوف علما وعملا الذي يرتكز على الخطأ القضائي المنسوب إلى شخص القاضي حيث التعويض عن الضرر المترتب عنه يخضع لقواعد المسؤولية الشخصية للقاضي وهو الشيء البعيد تماما عن الخطأ القضائي المنصوص عليه في الفصل 122 من الدستور.

. ثانيهما:

هذا الذي تولى الدستور النص عليه في الفصل 122 منه. ورأينا أن التعويض عن الضرر المترتب عنه لا يقوم على أساس الخطأ وإنما لما اعترى العمل القضائي من غلط على نحو حالة المرحوم عبد الواحد بن محمد المولي التي قدمناها نموذجا لحالة الخطة القضائي في دلالته الدستورية.

أما عن الإضافة التي قدمها الفصل 122 من الدستور:

فهي ليست إضافة كمية إلى رصيد تشريعي موجود. فهذا الأخير لم يكن يتجاوز و كل الأحوال الاستناد إلى قاعدة الخطأ الشخصي للقاضي في إطار القواعد العامة للمسؤولية. وإنما هي إضافة نوعية أولا في شكلها بحسبانها قاعدة واردة في صلب النص الدستوري، وثانيا في موضوعها بكفالتها لكل متضرر من آي “خطا قضائي” في حمولته الدستورية وسيلة لجبر الضرر المترتب عن أي حكم قضائي وصمه ذلك “الخطأ” أيا كانت الجهة القضائية التي أصدرته استنادا إلى النص الدستوري مباشرة.

نسال الله التوفيق فيما عرضناه في هذا البحث. “ومن يتوكل على الله فهو حسبه صدق الله العظيم وصلى الله على سيدنا محمد.

 

اترك تعليقاً