الأستاذ ابراهيم بن به
رئيس غرفة التأديب المتعلق بالميزانية
والشؤون المالية بالمجلس الأعلى للحسابات
يرتبط مفهوم المخالفة بمختلف أنظمة المسؤولية حيث تحدد طبيعة هذه الأخيرة مدلولها والهدف المتوخى منها. ففي إطار المسؤولية المدنية، يقصد بها كل خطأ يسبب ضررا للغير دون حصر أو تحديد لهذه الأخطاء، وتقوم على توفر عناصر ثلاثة: وهي
الخطأ والضرر والعلاقة السببية بينهما. وفي مجال المسؤولية الجنائية، يقصد بالجريمة كل فعل أو امتناع نهى المشرع عنه ورصد لفاعله جزاء جنائيا حيث يلزم لوجود الجريمة قانونا وجود نص قانوني يحظر إتيان أو ترك فعل معين، وتقرير عقوبة جنائية على ذلك، وتوافر أركان الجريمة وفقا للنص القانوني الخاص بها، وتختص بها المحاكم الجنائية بدرجاتهاالمختلفة، والجرائم الجنائية والعقوبات المقررة لها محددين على سبيل الحصر.
وفي إطار المسؤولية التأديبية، يقصد بالمخالفة كل فعل أو امتناع من الموظف يخالف الواجبات التي تنص عليها النصوص التشريعية والتنظيمية وأوامر الرؤساء التسلسليين أو يمثل خروجا على مقتضيات العمل الوظيفي أو يمثل مسلكا لا يتفق والاحترام الواجب وكرامة الوظيفة. وتأتي هذه الواجبات الوظيفية في صياغة عامة تدخل في إطارها أفعال يتعذر حصرها وتختلف من وظيفة إلى أخرى.
وتختلف هذه المخالفات من حيث الغاية، إذ يهدف تحديد الجريمة والعقاب عليها إلى القصاص من الجاني لصالح المجتمع، في حين تروم المسؤولية عن الخطأ في المجال المدني جبر الضرر وتعويض الشخص المضرور، بينما يسعى الجزاء على المخالفة التأديبية إلى حماية قيم الوظيفة العامة وقواعدها.
أما على مستوى مدونة المحاكم المالية، فإن مفهوم المخالفة المالية يرتبط بالاختصاصات القضائية الموكولة إلى المجلس ،وهي التدقيق والبت في الحسابات والتأديب المتعلق بالمي ازنية والشؤون المالية. ولا تستمد هذا النعت من كون القواعد القانونية التي تخالفها ذات طبيعة مالية، ولكن لأن هذه القواعد تهدف إلى حماية المالية العمومية، أي الموارد المالية للأجهزة العمومية، وبصفة عامة ممتلكات هذه الأجهزة ،اعتبارا لكون الهدف من المساءلة عن هذه المخالفات، لاسيما في مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية ليس بالدرجة الأولى تأديب الأشخاص الذين ارتكبوا هذه المخالفات، بل تحقيق الانضباط في مجال التدبير العمومي وحماية القانون العام المالي.
أولا- المخالفات المستوجبة للمسؤولية في مادة التأديب المالي
مّيزت مدونة المحاكم المالية بين مخالفات كل فئة من الفئات الرئيسية للأشخاص الخاضعين لاختصاص التأديب المالي، إذ تضمنت المادة 54من هذا القانون تلك المتعلقة بالآمر بالصرف ومدبري الشركات والمقاولات العمومية في حين تناولت المادة 55منه المخالفات التي قد تثير مسؤولية مراقب الالتزام بالنفقات والمراقب المالي بينما تعرضت المادة 56من نفس القانون للمخالفات التي قد يعاقب المحاسبون العموميون من أجل ارتكابها.
ويعتبر هذا التمييز من الآثار القانونية المترتبة عن مبدأ الفصل بين مهام الآمر بالصرف والمحاسب العمومي، الذي حدد بشكل كبير ملامح نظام المسؤولية أمام القاضي المالي المغربي. فطبقا لهذا المبدأ، الذي ارتبط تاريخيا ” بعدم ثقة السلطة التشريعية في
مدبري الأموال العمومية” ،ويشكل تطبيقا للمبدأ السياسي والدستوري التقليدي لفصل السلط في المجال المالي ،يعهد بالعمليات المالية والمحاسبية المترتبة عن تنفيذ ميزانيات الأجهزة العمومية إلى سلطتين مختلفتين، هما الآمر بالصرف والمحاسب العمومي.
وبموجب هذا التوزيع في العمل، يتعين على الآمر بالصرف، وهو كل شخص مؤهل باسم منظمة عمومية لرصد أو إثبات أو تصفية أو الأمر باستخلاص دين أو أدائه،بصفته الممثل القانوني للجهاز العام، ونظرا للسلطة التقديرية التي يتمتع بها، احترام النصوص القانونية في جميع الق ار ارت التي يتخذها، ذلك أن وظيفته هاته لم تكن دائما سوى مهمة ثانوية للمتصرف أو المدبر العمومي التي تشكل وظيفته الرئيسية .
فالأصل، أن الاختصاصات المالية للآمر بالصرف لا تعتبر سوى اختصاصات تكميلية لاختصاصاته في مجال التسيير والتدبير.
في حين يعهد إلى المحاسب العمومي حصريا التكفل بأوامر المداخيل الصادرة عن الآمرين بالصرف والديون المثبتة والقيام باستيفائها وكذا استخلاص الحقوق نقدا، وبأداء النفقات إما بأمر صادر عن الآمرين بالصرف المعتمدين واما بعد الاطلاع على السندات التي يقدمها الدائنون واما من تلقاء أنفسهم .وتتمحور هذه الاختصاصات حول حيازة وقبض الأموال العمومية والأعمال التي يستوجبها تنفيذ الأوامر الصادرة عن الآمر بالصرف، لاسيما وظيفتي المراقبة ومسك الحسابات. وبالنظر إلى طبيعة وظائف المحاسب العمومي والآمر بالصرف، فإن هذا الأخير له ” دور ايجابي ويتوفر على سلطة المبادرة. ويظل هاجسه الرئيسي، في إطار المهام الموكولة إليه ووفقا للإمكانيات الموضوعة رهن إشارته، التدبير الرشيد للمرفق العمومي (ونظرا لأن) أي تدبير ناجع لا يقتضي من المدبرين الحرص على الشرعية أكثر من حرصهم على اتخاذ المبادارت الجريئة التي قد تترتب عنها مخاطر (…) من الضروري أن يوكل لفئة أخرى من المسؤولين، أساسا المحاسبون العموميون، مهمة التأكد من أن المدبرين يتصرفون داخل
الإطار المحدد من طرف الحكومة والبرلمان”.
وتفيد المقارنة بين مختلف المخالفات المستوجبة للمسؤولية في مادة التأديب المالي الطابع الرئيسي لمسؤولية الآمر بالصرف الذي يتدخل في مستهل مسطرة تنفيذ العمليات المالية والمحاسبية. في حين تكتسي مسؤولية المراقبين والمحاسبين العموميين طابعا تبعيا،
وذلك نظرا لكون مسؤوليتهم تثار بشأن أعمال سلبية تتعلق بعدم القيام بالمراقبات التي هم ملزمون بها، طبقا للقوانين والأنظمة الجاري بها العمل.
كما تنحصر المخالفات المتعلقة بهذه الفئة الأخيرة بضمان الشرعية الميزانياتية للعمليات المنجزة، لاسيما التأكد من صفة الآمر
بالصرف وتوفر الاعتمادات وصحة تقييد النفقات في أبواب الميزانية المتعلقة به وتوفر المناصب المالية…الخ. ونظرا لكون شرط توفر الجهاز العام على محاسب عمومي لا ينطبق على تحديد الأجهزة الخاضعة للتأديب المالي ،فإن مجال المساءلة يشمل بالإضافة إلى الأجهزة التي تطبق مبدأ فصل المهام بين الآمر بالصرف والمحاسب العمومي، المؤسسات والمقاولات والشركات العامة التي تمارس أنشطة تجارية وصناعية، وتخضع في أغلب معاملاتها لقواعد القانون الخاص، فإن المخالفات التي تستوجب المساءلة أمام القاضي المالي في مجال التأديب المالي لا تنحصر فقط في قواعد المحاسبة العمومية، بل تشمل جميع مناحي التدبير وتتسم بالتعدد والتنوع، ليس فقط بسبب تعدد الأجهزة الخاضعة من حيث أشكالها وأنظمتها القانونية، بل أيضا اعتبارا للتنوع في وظائف الخاضعين لهذا الاختصاص في مجال التدبير العمومي، التي تشمل صناعة القرار المالي وتنفيذه ومراقبته.
في هذا الإطار، وبالرجوع إلى المخالفات الواردة في المادة 54من مدونة المحاكم المالية، يمكن التمييز في إطارها بين ثلاثة أنواع:
– مخالفة قواعد قانونية دون اشت ارط الضرر وسوء النية؛
— منح امتيازات ومنافع غير مبررة؛
– إلحاق ضرر بمالية جهاز عمومي بسبب الإخلال أو التقصير في مهام المراقبة
والإشراف.
وكما يتضح، فإن هذه المخالفات تتوزع بين المخالفات الشكلية ذات الطابع العام ومخالفات النتيجة والمخالفات العمدية التي تتسم بخطورة أكبر. وتستوعب، فضلا عن حالات خرق القواعد القانونية، تلك المرتبطة بمنح امتيا ازت غير مبررة، والتي تمنح للأخلاق
والقيم التي يجب أن تسود في الحياة العامة أهمية كبيرة، وتتخذ طابعا وقائيا إزاء حالات الارتشاء والشطط في استعمال السلطة واستغلال النفوذ، مما يجعلها آلية أساسية من شأن المساءلة عنها المساهمة في تخليق التدبير العمومي .
كما يمتد مجال المساءلة إلى الإختلالات في نظام الرقابة الداخلية التي يترتب عنها ضرر. وتضفي هذه المخالفة سمة خاصة على القضاء المالي لانسجامها مع المهام الرقابية للأجهزة العليا للرقابة والأهداف التي أحدثت من أجلها هذه الأجهزة، والتي تتجلى في مساعدة مسؤولي المنظمات العمومية على تفادي ارتكاب هذه المخالفات من خلال تعزيز نظام الرقابة الداخلية، وبالتبعية، تحسين التدبير العمومي. في هذا الإطار، ونظرا لما تكتسيه أخطاء التدبير من أهمية بالغة، خاصة على مستوى الآثار المترتبة عنها على مستوى تكلفة الأداء، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى القول بأن ” الضرر الذي يمكن أن تتعرض له المالية العامة (… ) نتيجة أخطاء التدبير التي قد يرتكبها الآمرون بالصرف هو أكثر خطورة من الضرر الناجم عن الأخطاء أو الجنح المرتكبة بمناسبة مسك الأموال”.
لذلك، ونظرا لاتسام هذه القواعد بالتعدد والتنوع، إذ تختلف من جهاز إلى آخر، يصعب، بل يتعذر، تحديد جميع الأفعال التي قد يرتكبها المدبر العمومي في مجال التدبير، والتي قد تشكل مخالفات. وعليه، يتعلق الأمر بتحديد مجالات المساءلة أكثر من تحديد
مخالفات بذاتها بالمعنى التقليدي للمصطلح، وهو ما يمنح للقاضي المالي سلطة تقديرية واسعة في تكييف الأفعال موضوع قضايا التأديب المتعلق بالمي ازنية والشؤون المالية عند البت فيها.
ثانيا- مبدأ الارتباط :
نحو توسيع نطاق مبدأ شرعية المخالفة في مادة التأديب المالي
على خلاف اختصاص البت في الحسابات، لا تنحصر ولاية القاضي المالي في مجال التأديب المالي في الأجهزة العمومية التي تتوفر على محاسب عمومي وتطبق نظام المحاسبة العمومية، بل تمتد إلى أجهزة عمومية أخرى تتخذ أشكالا قانونية مختلفة ومتنوعة تتجاوز الشكل الإداري التقليدي للمرفق العام، وتنشط في المجالات التجارية والصناعية، وتطبق، في أغلب معاملاتها، تبعا لذلك، قواعد القانون الخاص وتبعا لتنوع القواعد القانونية المنظمة لنشاط مختلف هذه الأجهزة الخاضعة، فإن مجال المساءلة في مادة التأديب المالي “لا ينحصر في عدم احترام قواعد تنفيذ النفقات والموارد العمومية وتدبير ممتلكات الأجهزة العمومية، وبصفة عامة قواعد المحاسبة العمومية، إذ يمتد إلى الأفعال المرتكبة من طرف الأشخاص الخاضعين لاختصاص التأديب المالي في إطار ممارسة مهامهم الوظيفية داخل الأجهزة الخاضعة بغض النظر عن شكل الجهاز وطبيعته التجارية أو الصناعية مادام أن هذه الأفعال تخالف قواعد التسيير المالي لهذه الأجهزة”.
وعليه، يتعلق مفهوم هذه القواعد بتلك المطبقة على الجهاز المعني الخاضع لاختصاص التأديب المالي بصرف النظر عن طبيعة الجهاز أو الأنظمة المطبقة عليه.
ووفقا لهذا الاجتهاد، لا تنحصر قواعد تنفيذ النفقات العمومية في معناها الضيق الذي يحيل على قواعد المحاسبة العمومية، بل تمتد، كذلك، إلى الأعمال التي لا يمكن فصلها عن قواعد التنفيذ هاته، والتي تعتبر جزء لا يتجزأ من مسطرة تنفيذ النفقات العمومية ،وقد تكون مضمنة في النصوص القانونية المتعلقة بالصفقات العمومية أو بالأملاك العمومية أو بالمسؤولية الإدارية أو تلك التي تنظم المجال النقدي والبنكي أو قانون الشركات.
واذا كان مصدر هذا المبدأ هو الاجتهاد القضائي، فقد اعتمده المشرع المغربي في مدونة المحاكم المالية من خلال مقتضيات تشريعية مباشرة، خلافا لما كان عليه الأمر في إطار القانون 12–79وفي التشريع الفرنسي، إذ أوردت المادة 54من مدونة المحاكم
المالية مخالفات أخرى تتجاوز بشكل مباشر قواعد المحاسبة العمومية. ويتعلق الأمر بعدم احترام النصوص التنظيمية المتعلقة بالصفقات العمومية ومخالفة النصوص التشريعية والتنظيمية الخاصة بتدبير شؤون الموظفين والأعوان وقواعد تدبير ممتلكات الأجهزة الخاضعة لرقابة المجلس.
وقد اتجه المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) نحو التوسيع في تحديد مفهوم القواعد القانونية التي قد يترتب عن عدم احترامها إثارة المسؤولية أمام القاضي المالي في مادة التأديب المالي، حيث قضى بأن ” قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص إنما تخص تطبيق القانون الجنائي وموضوع المتابعة المعروضة هو المجال التأديبي الذي يخضع للقوانين والأنظمة والمناشير والدوريات إلى جانب خضوعه لما يعتبر من المسلمات البديهية التي لا تحتاج إلى تنظيم أو تقعيد…” .وهو نفس الاتجاه الذي اعتمده مجلس الدولة الفرنسي ،إذ أكد على أنه “عندما يتعلق الأمر بتطبيق عقوبات غير جنائية، فإن مبدأ شرعية المخالفات والعقوبات لا يمنع من تحديد المخالفات على أساس الواجبات التي يخضع لها شخص بالنظر إلى النشاط الذي يمارسه والمهنة التي ينتمي إليها أو المؤسسة التي ينتسب إليها”.
في نفس السياق، اعتبرت غرفة التأديب المتعلق بالمي ازنية والشؤون المالية بالمجلس الأعلى للحسابات، تطبيقا لمبدأ الارتباط، عندما تحيل صفقة مبرمة من طرف مؤسسة عمومية على النصوص التنظيمية المطبقة على صفقات الدولة تصبح هذه النصوص من قواعد تنفيذ نفقات هذه المؤسسة العمومية .
كما أن إحالة بند بصفقة مبرمة من طرف مؤسسة عمومية على كناش الشروط الإدارية العامة المطبق على صفقات الأشغال المبرمة لحساب الدولة يجعل القواعد المضمنة بهذا الدفتر من قواعد تنفيذ نفقات هذه المؤسسة العمومية.
كما ارتكزت هذه الغرفة، لإثبات مخالفة في مجال تدبير الممتلكات العمومية على مبدأ عام يقضي بأن الرئيس التسلسلي مسؤول عن” تنظيم المديرية والإشراف على مصالحها بشكل يضمن تتبع مآل المعدات المعارة للأغيار (لذلك، فإن) عدم اتخاذ( المتابع) للإجراءات اللازمة لاسترجاع الجهازين المعارين إلى الوفد المشارك في المهرجان الدولي (…) يشكل إهمالا وتقصي ار في المحافظة على ممتلكات الجهاز (ويكون بذلك) قد خالف قواعد تدبير الممتلكات”.
وفي اجتهاد آخر، اعتبرت غرفة التأديب المالي بالمجلس الأعلى للحسابات أن “…إبرام صفقة يتعلق موضوعها بإنجاز أشغال على أرض لم تتم تسوية وضعيتها القانونية بعد، أي قبل انتقال ملكية هذه الأرض إلى صاحب المشروع، وتوفر جميع الشروط القانونية
والموضوعية لجعل موضوع عقد الالتزام قابلا للتنفيذ مخالفة لقواعد الالتزام بالنفقاتالعمومية…” .
وبالتالي، فإن مخالفات قواعد الالتزام بالنفقات العمومية تمتد إلى الواجبات الوظيفية التي يتعين على المسؤول اتخاذها ولو لم تكن موضوع قاعدة قانونية صريحة.
وتبعا لذلك، يمنح مبدأ الارتباط مفهوما خاصا لمبدأ الشرعية في مجال التأديب المالي ومستوى مقبولا في ضمان الأمن القانوني أكثر من مجال التأديب الإداري وبدرجة أقل إزاء المجال الجنائي .في هذا الإطار، وبالرغم من أن مبدأ الشرعية يطبق في المجال التأديبي عموما، فإن ذلك لا يعني وجود تطابق بين نطاق هذا المبدأ في المجال التأديبي مقارنة بالمادة الجنائية ” نظرا لطبيعة النظام الإداري التي تنعكس حتما على نظام التأديب الإداري، وتتطلب عدم تحديد المخالفات التأديبية على النحو المستقر والمتميز الذي حدد بمقتضاه المشرع الجرائم الجنائية، وذلك حتى يواجه النظام التأديبي تعدد وتنوع واجبات الوظائف العامة وتعدد أساليب العاملين ومخالفة هذه الواجبات واثبات أفعال تتعارض مع مقتضياتها ولتتحقق المرونة للسلطة التأديبية لوزن وتقدير صورة ومساحة المخالفة والجريمة التأديبية التي يتعين أن تدخل أصلا حسب تكييفها في الوصف العام الذي يحدده المشرع في القانون، والذي يحقق الشرعية بالنسبة لكل الأفعال والموازين التي ينطبق عليها، ويحقق بالتالي شرعية الجريمة التأديبية. إلا أن نظام التأديب الإداري يتفق مع النظام الجنائي في منهما أنهما نظامان عقابيان، ويتعين أن يتحدد بالقانون على وجه الدقة العقوبة في كل بدقة، ولا تملك سلطة المشرع سوى إسباغ الشرعية على عقاب تأديبي، كما أن القانون هو
وحده من له سلطة تحديد أي عقوبة جنائية في النظام الجنائي، وعلى ذلك، فالعقوبات التأديبية التي توقعها السلطات التأديبية المختصة لا تكون صحيحة ولا مشروعة إلا إذا كانت من بين العقوبات التي نص عليها القانون بمفهومه الواسع على سبيل الحصر”.
واذا كان الشق الأول من المبدأ لا ينطبق على المخالفة التأديبية ،فإن مدونة المحاكم المالية لم تنص على المخالفات المستوجبة للتأديب المالي وفقا للصيغة العامة المتبعة في مجال التأديب الإداري، أي الإخلال بالواجبات الوظيفية من طرف المدبرين العموميين، بل أوردت المخالفات حسب مجالات التدبير، ومن خلال اعتماد أسلوب الإحالة على قواعد تنظم مجالات تشمل مختلف مناحي التدبير العمومي دون تحديد الأفعال المادية التي يمكن في حالة ارتكابها أن تشكل مخالفات، كما هو الشأن بالنسبة لوصف الجرائم في القانون الجنائي.
ويجد الطابع الخاص لمبدأ الشرعية أساسه في طبيعة مجال التأديب المالي، الذي يرتبط بنظام عقابي خاص يهدف إلى مساءلة فئات معينة حسب وظائفها المهنية (بصفة عامة المدبرون العموميون). لذلك، أحال المشرع في تحديده لهذه المخالفات على الالتزامات والمسؤوليات الموكولة إلى هؤلاء داخل الأجهزة التي يعملون بها، وذلك نظرا لكونهم، في أغلب الأحيان، مسؤولين مهنيين يتم تعيينهم عن طريق الاختيار ووفق شروط محددة، مما يفترض توفرهم على الكفاءة اللازمة للتدبير، ودرايتهم بالقوانين والأنظمة والمساطر التي تحكم نشاط الجهاز المعني.
ولئن كانت المساءلة أمام القاضي المالي في مجال التأديب المالي مؤهلة، وفقا لمبدأ الارتباط، لإستيعاب المقاربة الاقتصادية في التدبير الجيد بايلاء الأهمية لأخطاء التسيير التي يمكن أن يرتكبها المدبرون العموميون، لاسيما الخطيرة منها، فإن تحديد المخالفات المستوجبة للمسؤولية في هذا المجال قد يحتاج إلى ملاءمة المخالفات القائمة حاليا واضافة أخرى جديدة تفرضها طبيعة المهام الجديدة الموكولة لمختلف المدبرين العموميين، تبعا للتحولات التي يخضع لها التدبير العمومي في الوقت الراهن، والمرتبطة بصدور القانون التنظيمي الجديد لقانون المالية الذي قّلص بشكل كبير من مخاطر ارتكاب المخالفات ذات صلة بالشرعية المي ازنياتية دون أن يعني ذلك إضفاء دور هامشي عليها على اعتبار أن التدبير المرتكز على النتائج بدل الوسائل، والذي وضع المشرع المغربي أسسه بمقتضى القانون التنظيمي الجديد سالف الذكر، يتمحور حول أربعة مظاهر متكاملة تتجلى في احترام القاعدة القانونية والتقيد بمبادئ التدبير المالي الجيد وتحقيق الأهداف والنتائج المسطرة وتقديم حسابات صحيحة وصادقة عن مؤشرات القياس المطبقة في تقييم تحقيق الأهداف المبرمجة، وهو ما يضفي أهمية كبيرة على امتداد مجال المساءلة مستقبلا إلى أخطاء التسيير بشكل ينسجم مع مستلزمات وغايات التدبير العمومي الحديث.